فرغم فجاجة سلوك الرئيس وخطابه الذي لا يخلو من سمات الديكتاتورية، فإننا، وبشكلٍ متناقض، نواصل تجاهله أو تبريره.
جاناتان فریدلند- جریدة غاردیان

لو وقعت هذه الأحداث في مكانٍ آخر—كأمريكا اللاتينية مثلًا—لكان توصيفها مختلفًا تمامًا.
رئيسٌ استحوذ على العاصمة، ويستعدّ الآن لإرسال قوّاته إلى مدنٍ خاضعة لسيطرة “متمرّدين”، مدّعيًا أنّه تلقّى دعوةً لإعادة النظام إليها.
هذا التحرّك يأتي بعد اقتحام منازل معارضين بارزين، بينما يواصل رجالٌ مسلّحون موالون للرئيس—كثيرٌ منهم ملثّمون—خطف الناس من الشوارع.
لكنّ هذه الوقائع لا تحدث في فنزويلا أو نيكاراغوا، بل في الولايات المتحدة الأميركيّة. ولهذا، لا نسمّيها بما تستحقّ من توصيف.
وليس هذا هو السبب الوحيد. فمسار ترامب نحو التسلّط يسير بخطى ثابتة، خطوة أو اثنتين كلّ يوم، ما يجعل من السهل تجاهله. لا يمكن للمرء أن يبقى في حالة صدمة دائمة.
وفوق ذلك، فإنّ العقلاء الحذرين يخشون المبالغة أو التوتّر، فيميلون غريزيًّا إلى التهوين بدلًا من رفع الصوت.
ثمّة أمرٌ آخر: سلوك ترامب السلطويّ صارخٌ إلى درجة أنّنا، وبشكلٍ متناقض، نتجاهله.
كأن نستيقظ ليلًا على صوت لصّ يرتدي قميصًا مخطّطًا ويحمل كيسًا مكتوبًا عليه “غنائم”، فنظنّ أنّنا نشهد مشهدًا تمثيليًّا لا خطرًا حقيقيًّا.
هكذا هو ترامب: لا نصدّق تمامًا ما نراه.
لكنّ ما نراه فعلًا هو هذا:
ترامب نشر الحرس الوطني في شوارع واشنطن العاصمة، حيث يجوبها الآن ألفا جنديٍّ مدجّج بالسلاح.
ذريعته: مكافحة الجريمة، رغم أنّ معدّلات الجريمة العنيفة كانت في أدنى مستوياتها منذ ثلاثين عامًا.
وقد هدّد بأنّ شيكاغو ستكون المحطّة التالية، وربّما بالتيمور بعدها.
وفي يونيو، أرسل الحرس الوطني ومشاة البحرية إلى لوس أنجلوس لقمع احتجاجات ضدّ سياساته في الهجرة، احتجاجات وصفتها إدارته بـ”التمرّد”.
المتظاهرون اشتكوا من عناصر ملثّمين تابعين لوكالة الهجرة ICE، التي باتت، بفضل ترامب، تملك ميزانيّة تضاهي جيوشًا كبرى، وتخطف الناس من الشوارع أو من داخل سياراتهم.
هذه المدن تُدار جميعها من قبل ديمقراطيّين، وتضمّ كثافة سكّانيّة سوداء مرتفعة، ما يجعلها مراكز محتملة للمعارضة.
وهو يسعى للسيطرة عليها.
مبدأ استقلال الولايات، الذي كان مقدّسًا لدى الجمهوريّين، أُهمل لصالح توسيع نفوذ الحكومة الفدراليّة.
الهدف واضح: تركيز السلطة في يد الرئيس، وتحييد كلّ مؤسّسة أو شخصٍ قد يُشكّل عائقًا.
هذا المنطق يفسّر كلّ خطوة يتّخذها ترامب، من عدائه للإعلام، إلى صراعه مع القضاء والجامعات وموظّفي الدولة.
ويفسّر أيضًا اقتحام عناصر الـFBI منزل ومكتب جون بولتون، مستشار الأمن القومي السابق، الذي بات من أبرز منتقديه، وكذلك تهديده الضمني لكريس كريستي، حاكم نيوجيرسي السابق.
ولهذا السبب، انتهك ترامب الأعراف وربّما القوانين، محاولًا إقالة ليزا كوك من مجلس الاحتياطي الفدرالي، بتهمٍ غير مثبتة تتعلّق بالاحتيال العقاري.
هذه التهم جاءت من مسؤولٍ موالٍ لترامب، يشغل منصب مدير الإسكان الفدرالي، والذي—بحسب نيويورك تايمز—استخدم منصبه مرارًا لاستهداف خصوم ترامب السياسيّين.
النمط واضح: ترامب يُسخّر مؤسّسات الدولة لمعاقبة معارضيه، في مشهدٍ يُذكّر بأسوأ ممارسات نيكسون، مع فارقٍ جوهريّ: نيكسون كان يعمل في الظلّ، أمّا ترامب، فكلّ شيءٍ عنده يجري في وضح النهار.
كلّ تحرّكاته تهدف إلى تعزيز سلطته.
خذ مثلًا إقالة كوك: ترامب، الذي تراجعت شعبيّته، خصوصًا في الملفّ الاقتصادي، يسعى لخفض أسعار الفائدة.
لكنّ البنك المركزي المستقلّ لا يستجيب، فيحاول ترامب السيطرة عليه.
استمع إلى ما قاله جاي دي فانس هذا الأسبوع: “ترامب أقدر على اتخاذ هذه القرارات من بيروقراطيّين غير منتخبين، لأنّه يُجسّد إرادة الشعب.”
هذا هو التسلّط بعينه: القول بأنّ الفصل بين السلطات لم يعد ضروريًّا، لأنّ كلّ الشرعيّة متمركزة في شخصٍ واحد.
لكنّ العقبة الأكبر أمام ترامب هي فوز خصومه في الانتخابات، خصوصًا سيطرة الديمقراطيّين على مجلس النواب في نوفمبر 2026.
ولهذا، يسعى جاهدًا لمنع ذلك، كما يظهر في إعادة رسم الدوائر الانتخابيّة في تكساس، حيث أعاد الجمهوريّون—بأمرٍ من ترامب—ترتيب الحدود لضمان خمسة مقاعد إضافيّة.
ويريد تطبيق هذا النموذج في ولايات أخرى، لأنّ مجلسًا يسيطر عليه الديمقراطيّون يُشكّل تهديدًا حقيقيًّا له.
وفي الوقت نفسه، وبعد لقائه مع بوتين، عاد ترامب ليهاجم التصويت بالبريد، واصفًا إيّاه بالخدعة، وطالب بإحصاءٍ جديد يستثني “المهاجرين غير الشرعيّين”.
خطواتٌ إمّا تُعزّز فرص الجمهوريّين في الفوز، أو تُتيح لترامب الطعن في شرعيّة فوز الديمقراطيّين.
وفي السياق ذاته، بات البيت الأبيض يُروّج لفكرة أنّه لا ينبغي لحزبٍ سوى الجمهوريّين أن يحكم.
كيف نفسّر تصريح ستيفن ميلر، مستشار ترامب، لقناة فوكس نيوز حين قال: “الحزب الديمقراطي ليس حزبًا سياسيًّا، بل تنظيمٌ متطرّف داخليّ”؟
الصورة تتكرّر في كلّ الجبهات: من التخطيط لعروضٍ عسكريّة احتفاءً بترامب، إلى طرد مسؤولي الصحّة الذين يُفضّلون العلم على الولاء السياسي.
ترامب عازمٌ على احتكار السلطة، وتحويلها إلى ملكيّةٍ شخصيّة، ولو على حساب المبادئ الاقتصاديّة المحافظة، أو بابتلاع أسهم الشركات الخاصّة عبر الدولة الفدراليّة.
يريد أن يُمسك بكلّ مفاصل الحياة الأميركيّة.
كما قال بنفسه هذا الأسبوع: “كثيرون يقولون إنّنا ربّما نحتاج إلى ديكتاتور.”
ديفيد أكسلرود، مستشار أوباما السابق، ليس الوحيد الذي قال: “لقد انحدرنا من نقطة الصفر إلى القاع أسرع ممّا كنّا نتخيّل.”
المشكلة أنّ الناس، داخل الولايات المتحدة وخارجها، لم يستوعبوا بعد هذا الانحدار المفاجئ.
جزءٌ من ذلك يعود إلى قناعةٍ راسخة: “هذا لا يمكن أن يحدث هنا.”
وجزءٌ آخر، خصوصًا لدى الحكومات الأجنبيّة، يعود إلى تردّدٍ في مواجهة واقعٍ يُجبرهم على إعادة النظر في كلّ شيء.
إذا كانت الولايات المتحدة تسير نحو التسلّط، في حالةٍ قد يُسمّيها الباحثون “الاستبداد غير المستقر”، فإنّ ذلك يُهدّد الموقع الاستراتيجي لبريطانيا، الذي ارتكز طوال ثمانين عامًا على افتراض أنّ الغرب تقوده أميركا ديمقراطيّة ومستقرّة.
وينطبق الأمر ذاته على الاتحاد الأوروبي.
الاستمرار في الإنكار، أو الادّعاء بأنّ الأمور ليست بهذا السوء، أو أنّ الوضع سيعود إلى طبيعته قريبًا، قد يكون أسهل للزعماء الأوروبيّين.
لكنّهم، كحال المواطنين الأميركيّين، لا يمكنهم تجاهل الحقائق إلى الأبد.
وكما يقول عنوان ذلك الرواية القديمة:
“قد يحدث هنا”—وقد حدث بالفعل.
📘 رواية “It Can’t Happen Here” للكاتب سنكلير لويس، نُشرت عام 1935، وتُعدّ تحذيرًا سياسيًّا صارخًا—ليس لأميركا وحدها، بل لكلّ مجتمعٍ يظنّ نفسه بمنأى عن الاستبداد.
في خضمّ الكساد الكبير، يصعد سيناتور شعبويّ يُدعى باز ويندريب إلى الرئاسة، عبر وعودٍ زائفة وشعاراتٍ قومي
