عمل مشترك من سهيل للإعلام وکبیلوت، تحت إشراف ومتابعة علمية لحيدر سهیلي الأصفهاني
الملخص
تتناول هذه الدراسة الآثار المحتملة لتفعيل آلية العودة التلقائية ضد إيران في إطار قرار مجلس الأمن رقم 2231. وتُظهر أن هذا الإجراء، رغم طابعه الرمزي والقانوني، لا يؤدي بالضرورة إلى نتائج مدمرة. بالاستناد إلى مرونة إيران المؤسسية، وشراكاتها الإقليمية، وتجربتها السابقة مع العقوبات، تتحدى الورقة الافتراضات السائدة. كما تستعرض التكاليف الاعتبارية التي قد تتحملها أوروبا، والتحولات الجيوسياسية الناتجة عن تصاعد الضغط. وفي النهاية، تقدم الدراسة تقييماً متعدد الأبعاد للآثار الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية في مرحلة ما بعد الاتفاق النووي.
المقدمة
خلال العدوان الإسرائيلي على إيران في يونيو 2025، اعتُبرت تصريحات المستشار الألماني دليلاً رمزياً على انحياز أوروبا إلى إسرائيل في هذه العملية، وقد عززت مشاركة الطائرات الحربية الفرنسية والبريطانية في المهام الدفاعية هذا الانطباع بأدلة عملية ملموسة.
وبعد انتهاء الحرب، ورداً على تعليق إيران تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وقرار مجلس الشورى الإيراني، هدد الاتحاد الأوروبي بتفعيل آلية العودة التلقائية ضد إيران إذا استمرت الأوضاع. وقد صدر هذا التهديد بشكل خاص من دول مجموعة E3 (ألمانيا، فرنسا، المملكة المتحدة)، مما أدى إلى اتفاق بين إيران والوكالة في القاهرة، نصّ على السماح بتفتيش المنشآت النووية المتضررة وفق شروط محددة.
ومع ذلك، اعتبر الأوروبيون هذا الاتفاق غير كافٍ، وطالبوا بوقف كامل للأنشطة الصاروخية الإيرانية، بما في ذلك الصواريخ قصيرة المدى. وقد أكد مسؤول ألماني أن هذا المطلب يهدف إلى ضمان أمن إسرائيل. وقد فرض هذا الموقف تكاليف سياسية وعملية كبيرة على إيران، وعزز الانطباع العام والإعلامي داخل إيران وفي بعض الأوساط الدولية بأن أوروبا تميل إلى تفعيل آلية العودة التلقائية، وستجد لذلك ذرائع متعددة.
في هذا السياق، تطرح الدراسة السؤال البحثي المركزي التالي:
“إذا افترضنا أن أوروبا ستقوم بتفعيل آلية العودة التلقائية بشكل حتمي، فهل سيؤدي هذا الإجراء إلى إلحاق ضرر جسيم بالاقتصاد الإيراني؟ أم أن تجربة إيران الطويلة مع عقوبات الفصل السابع واستعدادها لمواجهة العقوبات المصرفية والمالية والثانوية، تجعل من آثار هذا التفعيل غير كارثية أو غير مشلّة؟“
وتفترض الدراسة أن:
“تفعيل آلية العودة التلقائية، رغم تهديداته الرمزية والسياسية، لا يمكن أن يؤدي إلى آثار مدمرة.”
ويستند هذا الافتراض إلى أربعة مؤشرات رئيسية:
1- تجربة إيران مع العقوبات غير المباشرة للفصل السابع
- خضعت إيران لسنوات طويلة لعقوبات واسعة النطاق، رغم أنها لم تكن رسمياً تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، إلا أن آثارها العملية كانت مشابهة.
- دفعت القيود المفروضة على القطاع المصرفي والنفط والتأمين وتصدير التكنولوجيا إيران إلى تبني آليات بديلة مثل أنظمة المقايضة، العملات الإقليمية، والشبكات المالية غير الرسمية.
- وقد ساهمت هذه التجربة في بناء نوع من “المرونة المؤسسية”، مما يجعل تفعيل آلية العودة التلقائية مجرد تكرار للضغوط السابقة، وليس بداية أزمة جديدة.
2- الجاهزية الهيكلية لإيران في مواجهة العقوبات
- بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018، أعادت إيران تصميم بنيتها التحتية الاقتصادية والقانونية لمواجهة العقوبات.
- شملت هذه الجاهزية تطوير أنظمة تبادل مالي محلية، وتعزيز الإنتاج المحلي، وتوسيع العلاقات مع الدول غير الغربية.
- كما أن خبرة إيران في التحايل على العقوبات من خلال شركات وسيطة، طرق شحن غير مباشرة، واستخدام العملات غير الدولارية، تظهر قدرتها المتزايدة على مقاومة العقوبات الثانوية.
3- معارضة الصين وروسيا لتفعيل آلية العودة التلقائية
- باعتبارهما عضوين دائمين في مجلس الأمن، أعلنت الصين وروسيا معارضتهما العلنية لإعادة فرض العقوبات الأممية على إيران، وأكدتا ذلك في بيانات رسمية.
- لا تمنع هذه المعارضة تشكيل إجماع عالمي ضد إيران فحسب، بل تحافظ أيضاً على قنوات التعاون الاقتصادي والعسكري معها.
- علاوة على ذلك، يمكن لهاتين الدولتين الطعن في شرعية الإجراءات الأوروبية داخل المؤسسات الدولية، واعتبارها انتهاكاً لروح الاتفاق النووي.
4- التكاليف الاعتبارية على الاتحاد الأوروبي
- قد يُنظر إلى تفعيل آلية العودة التلقائية من قبل أوروبا—خصوصاً بعد اتفاق القاهرة وتعاون إيران الجزئي مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية—على أنه إجراء غير عادل.
- مثل هذا التحرك يضعف مصداقية أوروبا كوسيط مستقل ومتوازن، وقد يقلل من نفوذها الدبلوماسي في الشرق الأوسط.
- كما أن الأحزاب السياسية ووسائل الإعلام الأوروبية المعارضة لسياسات إسرائيل قد تفسر هذا الإجراء على أنه انحياز غير مشروط لتل أبيب.
منهجية المصادر
تعتمد هذه الدراسة حصرياً على مصادر إخبارية دولية موثوقة، ومجلات متخصصة، ومؤسسات رسمية عالمية في الاستشهاد والتحليل. وستُستخدم المصادر الفارسية فقط عند تناول ردود الفعل الداخلية في إيران. وسيتم تجنب الإشارة إلى المصادر الترويجية أو الحزبية، سواء كانت داخلية أو تابعة للمعارضة الخارجية، بشكل كامل. وقد تم اعتماد هذا النهج لضمان الحياد، والدقة التحليلية، والمصداقية العلمية.
استناداً إلى هذا الإطار، نقترح الهيكل التالي للدراسة:
1- المقدمة
2- الإطار النظري والمفاهيمي
- تعريف آلية العودة التلقائية في قرار 2231
- موقعها القانوني في النظام الدولي
- الفرق بين عقوبات الفصل السابع والعقوبات الثانوية
- مفهوم “المرونة المؤسسية” في اقتصاد العقوبات
3- تحليل عناصر الفرضية
3.1 تجربة إيران مع عقوبات الفصل السابع غير المباشرة
- مراجعة تاريخية للعقوبات
- الآليات الاقتصادية البديلة
- تأثيرها على سلوك المؤسسات الإيرانية
3.2 الجاهزية الهيكلية لإيران
- الإصلاحات الاقتصادية بعد عام 2018
- الأدوات المحلية لمواجهة العقوبات
- القدرات الإقليمية وغير الدولارية
3.3 معارضة الصين وروسيا
- المواقف الرسمية في مجلس الأمن
- إمكانيات التعاون الاقتصادي والعسكري
- تأثير ذلك على شرعية الإجراء الأوروبي
3.4 التكاليف الاعتبارية على أوروبا
- التحليل الدبلوماسي والإعلامي
- تأثير ذلك على دور أوروبا كوسيط
- الانعكاسات الداخلية في دول الترويكا الأوروبية
4- الانتقادات الداخلية للفرضية وحدود التحليل
- تجاهل التجربة المعيشية للعقوبات: التضخم، البطالة، التآكل الاجتماعي
- الآثار المدمرة لآلية العودة التلقائية: إضفاء الشرعية على السلوك غير المشروع
- الانسداد الكامل لمسارات الانفراج: تصاعد التوتر، واستيقاظ شبح الحرب
5- النتائج المحتملة لتفعيل آلية العودة التلقائية
- توسع نطاق العقوبات وانضمام الدول المحايدة
- تآكل شرعية أوروبا في الجنوب العالمي
- تصاعد التوترات الإقليمية وخطر النزاعات بالوكالة
- تعزيز المسارات الموازية وإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية
6- التقييم النهائي والإجابة على سؤال البحث
- تلخيص الآثار الاقتصادية والسياسية
- تقييم مدى “الدمار” الناتج عن العقوبات
- تحليل تكاليف المواجهة لكل من إيران وأوروبا
- الاستنتاج التحليلي بشأن الفرضية
7- نظرة إلى المستقبل
- إعادة تعريف دبلوماسية إيران في عالم متعدد الأقطاب
- إعادة بناء الاقتصاد الداخلي على أساس المرونة الاجتماعية ومكافحة الفساد بلا مجاملة
- إعادة تشكيل سردية وسلوك إيران في الساحة الدولية
2- الإطار النظري والمفاهيمي
2.1 تعريف آلية العودة التلقائية (Snapback Mechanism)
آلية العودة التلقائية هي مصطلح مستخدم في أدبيات القانون الدولي والدبلوماسية النووية، وتشير إلى آلية إعادة فرض تلقائي للعقوبات الأممية ضد إيران. وقد تم تضمين هذه الآلية في نص قرار مجلس الأمن رقم 2231، الذي صدر عقب الاتفاق النووي (برجام) عام 2015.
بموجب هذه الآلية، إذا ادعى أحد أطراف الاتفاق—وخاصة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن—أن إيران لم تلتزم “بشكل كبير” بتعهداتها، يمكنه بدء إجراء يؤدي في النهاية إلى إعادة جميع العقوبات الأممية التي كانت مفروضة قبل الاتفاق، دون الحاجة إلى تصويت جديد في مجلس الأمن.
تتميز هذه الآلية عن الإجراءات المعتادة في مجلس الأمن بأنها غير قابلة للنقض من قبل الأعضاء الآخرين. بمعنى آخر، إذا بدأت فرنسا أو بريطانيا أو الولايات المتحدة هذا الإجراء، فإن اعتراض الصين أو روسيا لا يمكنه إيقاف إعادة فرض العقوبات.
هذه الخاصية تجعل من آلية العودة التلقائية أداة قوية وربما خطيرة في العلاقات الدولية، خصوصاً في حالات تصاعد الخلافات السياسية بين أطراف الاتفاق.
من الناحية القانونية، تمثل هذه الآلية نوعاً من “العودة إلى الوضع السابق”، حيث تُعاد إيران إلى حالة العقوبات الأممية الشاملة، بما في ذلك العقوبات العسكرية، المالية، المصرفية، وقيود تصدير التكنولوجيا.
ورغم أن هذه الآلية مدرجة في نص الاتفاق النووي، إلا أنها كانت موضع جدل منذ البداية، حيث اعتبرها بعض المحللين انتهاكاً لروح الاتفاق.
2.2 الوضع القانوني في قرار 2231
قرار مجلس الأمن رقم 2231 هو الوثيقة التي تعترف بالاتفاق النووي وتُرسّخ إطاره التنفيذي على المستوى الدولي.
لا يقتصر هذا القرار على تحديد التزامات إيران، بل يحدد أيضاً واجبات وصلاحيات الأطراف الأخرى. وقد صيغت البنود المتعلقة بآلية العودة التلقائية بطريقة تتيح إعادة فرض العقوبات في حال حدوث “عدم التزام كبير” من جانب إيران.
من منظور القانون الدولي، تُعد هذه البنود بمثابة “شرط فسخ ضمني”، يسمح للأطراف بتعليق الاتفاق وإعادة العقوبات إذا تم خرق الالتزامات.
لكن تفسير مصطلح “عدم التزام كبير” يظل غامضاً وموجهاً سياسياً، إذ لا توجد معايير قانونية دقيقة أو هيئة مستقلة لتقييم هذا الخرق، مما حول الآلية إلى أداة ضغط سياسي أكثر من كونها أداة قانونية بحتة.
نقطة مهمة أخرى هي أن القرار 2231، خلافاً للقرارات السابقة بشأن إيران، لا يقع تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
وهذا يعني أن تنفيذه غير إلزامي قانوناً، إلا إذا تم تفعيل آلية العودة التلقائية. وبالتالي، فإن إيران قبل التفعيل لا تُعتبر خاضعة لعقوبات أممية ملزمة، وهو فرق جوهري عن وضعها قبل الاتفاق النووي.
2.3 الفرق بين عقوبات الفصل السابع والعقوبات الثانوية
عقوبات الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة هي تلك التي يفرضها مجلس الأمن بموجب صلاحياته في هذا الفصل، وتكون ملزمة لجميع الدول الأعضاء.
وتشمل هذه العقوبات حظر بيع الأسلحة، تجميد الأصول، قيود السفر، ومنع التعاون التكنولوجي مع الدولة المستهدفة.
أما العقوبات الثانوية، فهي تلك التي تفرضها دولة واحدة (مثل الولايات المتحدة) ضد كيانات أو دول تتعاون مع الدولة المستهدفة.
بمعنى آخر، لا تُفرض هذه العقوبات مباشرة على إيران، بل على الشركات والبنوك التي تتعامل معها.
ورغم أنها ليست ملزمة دولياً، إلا أن تأثيرها كبير بسبب الهيمنة الاقتصادية الأمريكية، حيث تمتنع العديد من المؤسسات الدولية عن التعاون مع إيران خوفاً من العقوبات الأمريكية.
الفرق الجوهري بين النوعين يكمن في درجة الإلزام، نطاق التنفيذ، والشرعية الدولية.
فعقوبات الفصل السابع تتمتع بشرعية قانونية دولية ويجب تنفيذها من قبل جميع الدول، بينما العقوبات الثانوية تُستخدم كأدوات ضغط سياسي واقتصادي، وتبقى شرعيتها محل جدل.
في سياق هذه الدراسة، يُعد هذا الفرق مهماً، لأن الفرضية تقوم على أن إيران تمتلك خبرة طويلة في مواجهة كلا النوعين من العقوبات، وقد نجحت في تعزيز مرونتها المؤسسية.
2.4 مفهوم المرونة المؤسسية (Institutional Resilience)
المرونة المؤسسية هي مفهوم في أدبيات الاقتصاد السياسي ودراسات العقوبات، ويشير إلى قدرة مؤسسات الدولة الداخلية على الحفاظ على الأداء، التكيف، ومقاومة الضغوط الخارجية.
يتجاوز هذا المفهوم مجرد “التحمل الاقتصادي”، ويشمل قدرة الهياكل القانونية، الإدارية، المالية، والسياسية على إعادة إنتاج نفسها في ظروف الأزمة.
في حالة إيران، تعززت هذه المرونة بشكل ملموس بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018.
فقد طورت المؤسسات الاقتصادية، مثل البنك المركزي، وزارة النفط، والهيئات التجارية، آليات للالتفاف على العقوبات، استخدام العملات البديلة، والتعامل مع شركاء غير غربيين.
كما قدمت المؤسسات القانونية والدبلوماسية الإيرانية حججاً في المحافل الدولية لنزع الشرعية عن العقوبات.
تُعد المرونة المؤسسية عنصراً أساسياً في فرضية هذه الدراسة، لأنها تُظهر أن إيران قادرة على مواجهة إعادة فرض العقوبات ليس فقط اقتصادياً، بل أيضاً على المستوى الهيكلي.
وقد نتجت هذه المرونة عن تراكم الخبرة، الإصلاحات، والتكيف التدريجي مع بيئة العقوبات، ويمكن أن تمنع حدوث “دمار شامل” جراء العقوبات الجديدة.
ج) العقوبات بعد الاتفاق النووي: العودة الأحادية من قبل الولايات المتحدة (2018–حتى الآن)
- الجهة المنفذة: الولايات المتحدة الأمريكية
- الأساس القانوني: الانسحاب من الاتفاق النووي في مايو 2018، وإعادة فرض العقوبات بموجب قانون العقوبات الشاملة ضد إيران (CISADA) وقانون العقوبات الثانوية
- المضمون:
- إعادة فرض العقوبات على البنك المركزي، شركة النفط الوطنية، والمؤسسات الاقتصادية الرئيسية
- تهديد الشركات الأجنبية بعقوبات إذا تعاونت مع إيران
- عقوبات ثانوية ضد البنوك، شركات التأمين، وخطوط الشحن غير الأمريكية
- حظر بيع الطائرات، المكونات الصناعية، والمعدات الطبية المتقدمة
رغم معارضة الاتحاد الأوروبي، الصين، وروسيا لهذه العقوبات، إلا أن العديد من الشركات الدولية أوقفت تعاونها مع إيران خوفاً من العقوبات الأمريكية. وبهذا، عادت إيران فعلياً إلى وضع مشابه لعقوبات الفصل السابع، دون أن يصدر قرار رسمي من مجلس الأمن.
ثانياً – الآليات الاقتصادية البديلة
رداً على هذه العقوبات، صممت إيران ونفذت مجموعة من الآليات البديلة تهدف إلى الحفاظ على الحد الأدنى من التفاعل الاقتصادي مع العالم، تقليل الاعتماد على المؤسسات الغربية، وخلق مسارات موازية للتجارة والتمويل. وتشمل هذه الآليات:
- المقايضة التجارية مع الدول المجاورة والشركاء الآسيويين، خاصة الصين، الهند، تركيا، والعراق
- استخدام العملات غير الدولارية مثل اليوان، الروبية، الروبل، والليرة لتجاوز القيود المفروضة على الدولار
- إنشاء أنظمة تبادل مالي محلية كبدائل لـ SWIFT لتسهيل المعاملات المصرفية الداخلية والإقليمية
- تأسيس شركات وسيطة وصورية خارج البلاد لتنفيذ الصفقات النفطية والصناعية بشكل غير مباشر
- تطوير القدرات الإنتاجية المحلية في مجالات مثل البتروكيماويات، الأدوية، المعدات الصناعية، وتكنولوجيا المعلومات
- تعزيز الدبلوماسية الاقتصادية مع الدول غير الغربية لجذب الاستثمارات، نقل التكنولوجيا، وإبرام اتفاقيات ثنائية
ورغم ما واجهته هذه الآليات من تحديات تنفيذية وضعف في الكفاءة في البداية، إلا أنها تحولت تدريجياً إلى جزء من البنية الاقتصادية لإيران، وأسهمت في التخفيف من آثار العقوبات.
ثالثاً – تأثير العقوبات على سلوك المؤسسات الإيرانية
لم تؤثر العقوبات غير المباشرة على المؤشرات الاقتصادية فحسب، بل غيّرت أيضاً سلوك المؤسسات الرئيسية في البلاد. ويمكن ملاحظة هذا التحول المؤسسي على عدة مستويات:
- المؤسسات الاقتصادية مثل البنك المركزي، وزارة النفط، ومنظمة تنمية التجارة، اتجهت نحو التخطيط في ظروف الأزمة، وبدأت بوضع سيناريوهات للعقوبات، إدارة المخاطر، وتعزيز المرونة المؤسسية.
- المؤسسات القانونية والقضائية شرعت في صياغة تشريعات داخلية لدعم المنتجين، تسهيل التجارة، ومكافحة الفساد في ظل العقوبات، إلى جانب جهود قانونية لملاحقة العقوبات في المحافل الدولية.
- المؤسسات الدبلوماسية وعلى رأسها وزارة الخارجية، تحولت نحو الدبلوماسية الاقتصادية والإقليمية، مع التركيز على العلاقات مع الصين، روسيا، دول منظمة التعاون الاقتصادي (ECO)، والتكتلات الإقليمية مثل منظمة شنغهاي.
- المؤسسات الإعلامية والدعائية ساهمت في ترسيخ خطاب “المقاومة الاقتصادية” و”اقتصاد العقوبات”، مما أدى في بعض الحالات إلى نشوء نوع من الإجماع الوطني في مواجهة الضغوط الخارجية.
هذا التحول في السلوك المؤسسي يدل على أن إيران لم تكتف بالأدوات الاقتصادية لمواجهة العقوبات، بل أعادت تشكيل بنيتها المؤسسية أيضاً. وهذا ما أُشير إليه في الفصل السابق بمفهوم “المرونة المؤسسية”، والذي تظهر تطبيقاته العملية هنا في سلوك المؤسسات الإيرانية.
3.2 الجاهزية الهيكلية لإيران
رغم أن تفعيل آلية العودة التلقائية يؤدي قانونياً إلى إعادة فرض العقوبات الأممية، فإن إيران عملياً واجهت ضغوطاً مشابهة منذ عام 2018، بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات الأحادية. وقد دخلت إيران في مرحلة من العزلة الاقتصادية، استبقت فيها العديد من آثار آلية العودة التلقائية.
وفي مواجهة هذا الوضع، أُجريت سلسلة من الإصلاحات الهيكلية في المجالات الاقتصادية، القانونية، والدبلوماسية، بهدف تقليل الهشاشة وزيادة القدرة على الصمود أمام العقوبات.
أولاً – الإصلاحات الاقتصادية بعد عام 2018
بعد إعلان انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في مايو 2018، واجهت الحكومة الإيرانية أزمات مثل انخفاض صادرات النفط، انهيار قيمة الريال، وقيود مصرفية حادة. ورداً على هذه الأزمات، بدأت إصلاحات في عدة محاور رئيسية:
- مراجعة الموازنة العامة بهدف تقليل الاعتماد على عائدات النفط
- زيادة مساهمة الضرائب في تمويل الدولة وتوسيع القاعدة الضريبية
- تعزيز القطاعات غير النفطية مثل البتروكيماويات، الزراعة، والصناعات الصغيرة
- تطوير البنية التحتية الرقمية والتجارة الإلكترونية لتقليل الاعتماد على التجارة التقليدية
- إصلاح النظام النقدي من خلال إنشاء أسواق موازية للعملات، ضبط الطلب، وتقييد خروج رؤوس الأموال
- زيادة دعم الإنتاج المحلي عبر تقديم التسهيلات، الإعفاءات الضريبية، وحظر استيراد السلع غير الضرورية
ورغم ما واجهته هذه الإصلاحات من تحديات مثل التضخم، الفساد المؤسسي، وضعف التنفيذ، إلا أنها نجحت في تحويل الاقتصاد الإيراني من نموذج يعتمد على النفط والدولار إلى نماذج أكثر مرونة.
ثانياً – الأدوات المحلية لمواجهة العقوبات
إلى جانب الإصلاحات الكبرى، طورت إيران مجموعة من الأدوات التنفيذية والمؤسسية لمواجهة العقوبات، بهدف الحفاظ على الحد الأدنى من الأداء الاقتصادي والمالي في ظل القيود:
- إنشاء أنظمة تبادل مالي محلية كبدائل لـ SWIFT لتسهيل المعاملات المصرفية الداخلية والإقليمية
- تأسيس شركات وسيطة وصورية خارج البلاد لتنفيذ الصفقات النفطية والصناعية بشكل غير مباشر
- تطوير شبكات النقل والتأمين المحلية لتقليل الاعتماد على الشركات الدولية
- استخدام التكنولوجيا المحلية في مجالات الطاقة، الأدوية، والزراعة لتقليل الحاجة إلى الاستيراد
- تعزيز المؤسسات الرقابية والقضائية لمكافحة الفساد والاستغلال في ظل العقوبات
- إنشاء آليات قانونية لدعم المنتجين والمصدرين في مواجهة آثار العقوبات
وقد لعبت هذه الأدوات، خصوصاً في مجالات النفط، المصارف، والتجارة الخارجية، دوراً مهماً في الحفاظ على الأداء الاقتصادي، وأظهرت قدرة إيران على إعادة تشكيل بنيتها التحتية لمواجهة بيئة العقوبات.
ثالثاً – القدرات الإقليمية وغير الدولارية
من أهم محاور الجاهزية الهيكلية لإيران، توسيع العلاقات الاقتصادية مع دول الجوار واستخدام العملات غير الدولارية. وقد هدفت هذه السياسة إلى تقليل الاعتماد على النظام المالي الغربي وخلق مسارات موازية للتجارة والتمويل:
- توسيع العلاقات التجارية مع دول الجوار مثل العراق، تركيا، أفغانستان، باكستان، وآسيا الوسطى
- تعزيز التعاون مع الصين وروسيا عبر اتفاقيات ثنائية، المقايضة، والاستثمارات المشتركة
- استخدام عملات بديلة مثل اليوان، الروبل، الروبية، والليرة في المعاملات الخارجية
- الانضمام إلى تكتلات إقليمية مثل منظمة شنغهاي، منظمة التعاون الاقتصادي (ECO)، والاتحاد الأوراسي
- إنشاء بنوك مشتركة وصناديق استثمار إقليمية لتسهيل المعاملات المالية دون الحاجة إلى الدولار أو اليورو
ورغم أن هذه القدرات لم تحل بالكامل محل النظام المالي الغربي، إلا أنها ساهمت في تلبية جزء من احتياجات إيران في ظل العقوبات، وزادت من هامش المناورة الاقتصادية.
في المجمل، فإن الجاهزية الهيكلية لإيران بعد عام 2018 لا تقتصر على الإصلاحات الاقتصادية، بل تشمل أيضاً الأدوات التنفيذية والقدرات الإقليمية. وتُعد هذه الجاهزية عنصراً أساسياً في فرضية الدراسة، التي تؤكد أن إيران، خلافاً للتصورات الشائعة، لن تنهار نتيجة تفعيل آلية العودة التلقائية، بل تمتلك القدرة على مواجهتها من خلال الخبرة وإعادة تشكيل مؤسساتها.
3.3 معارضة الصين وروسيا
رغم أن آلية العودة التلقائية مصممة قانونياً بحيث يمكن لأي طرف من أطراف الاتفاق النووي (بما في ذلك الدول الأوروبية) أن يفعّلها ويعيد تلقائياً العقوبات الأممية ضد إيران، فإن معارضة الصين وروسيا لهذا المسار تحمل آثاراً سياسية ودبلوماسية بالغة. هذه المعارضة لا تمنع فقط تشكّل إجماع عالمي ضد إيران، بل تضعف أيضاً شرعية الخطوة الأوروبية على المستوى الدولي، وتحافظ على إمكانيات التعاون الاقتصادي والعسكري بين إيران والشرق.
أولاً – المواقف الرسمية في مجلس الأمن
منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018، أعلنت الصين وروسيا مراراً معارضتهما لإعادة فرض العقوبات الأممية على إيران. وقد انعكست هذه المواقف في جلسات مجلس الأمن، البيانات الدبلوماسية، ووسائل الإعلام الرسمية في كلا البلدين.
- روسيا، عبر ممثلها الدائم في الأمم المتحدة، أكدت مراراً أن تفعيل آلية العودة التلقائية من قبل الدول الأوروبية أو الولايات المتحدة يُعد “انتهاكاً لروح الاتفاق النووي” و”استغلالاً غير مشروع للآلية القانونية في القرار 2231″. كما شددت موسكو على أن هذا الإجراء يفتقر إلى الإجماع الدولي ولا يمكن اعتباره أساساً مشروعاً لإعادة العقوبات.
- الصين، في بيانات وزارة الخارجية وخطابات ممثليها في مجلس الأمن، وصفت إعادة العقوبات بأنها “غير قانونية” و”غير بنّاءة”، مؤكدة أن مثل هذه الخطوة لا تضر بالاتفاق النووي فحسب، بل تهدد أيضاً الاستقرار الإقليمي.
ورغم أن هذه المواقف لا تستطيع قانونياً منع تفعيل الآلية (لأن تصميمها يجعلها غير قابلة للنقض)، إلا أنها سياسياً تمنع تشكّل إجماع عالمي ضد إيران وتضعف شرعية الخطوة الأوروبية.
ثانياً – إمكانيات التعاون الاقتصادي والعسكري
لم تقتصر معارضة الصين وروسيا على التصريحات السياسية، بل تجسدت أيضاً في تعاون اقتصادي وعسكري فعلي مع إيران، خاصة في ظل العقوبات، مما ساهم في الحفاظ على الأداء الاقتصادي والأمني الإيراني.
- اقتصادياً، لا تزال الصين من أكبر الشركاء التجاريين لإيران، حيث تستمر شركاتها في استيراد النفط الإيراني، الاستثمار في مشاريع البنية التحتية، والتعاون في مجالات الطاقة وتكنولوجيا المعلومات. أما روسيا، فتواصل تعاونها مع إيران في مجالات الطاقة النووية، النقل، والصناعات الثقيلة.
- عسكرياً وأمنياً، تتعاون إيران مع روسيا في شراء المعدات الدفاعية، التدريب العسكري، والتنسيق الاستخباراتي. وتشكل المناورات البحرية المشتركة في الخليج الفارسي وبحر عمان مثالاً على هذا التعاون. كما أن الصين شاركت إيران في مجالات الأمن السيبراني والتقنيات الدفاعية.
هذه القدرات تمنح إيران أدوات لتخفيف آثار العقوبات الغربية، وتفتح لها مسارات بديلة للتمويل، التكنولوجيا، والأمن. وبالتالي، فإن تفعيل آلية العودة التلقائية لا يؤدي بالضرورة إلى عزل إيران بالكامل.
ثالثاً – التأثير على شرعية الخطوة الأوروبية
معارضة الصين وروسيا لا تمنع فقط الإجماع العالمي، بل تضع أيضاً شرعية الخطوة الأوروبية موضع شك. ويمكن تحليل هذا التأثير على عدة مستويات:
- على مستوى القانون الدولي، ترى الصين وروسيا أن الخطوة الأوروبية تتعارض مع روح الاتفاق النووي والقرار 2231. ويجد هذا التفسير صدى في المحافل الدولية ووسائل الإعلام العالمية، مما يجعل الخطوة الأوروبية تُعتبر “استغلالاً للآلية القانونية”.
- على مستوى الدبلوماسية متعددة الأطراف، فإن معارضة عضوين دائمين في مجلس الأمن تضعف مصداقية أوروبا في المؤسسات الدولية. أوروبا، التي تقدم نفسها كوسيط مستقل، تُرى في هذا السياق كطرف منحاز ومتوافق مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
- على مستوى الرأي العام العالمي، خاصة في الدول غير الغربية، قد تُعتبر الخطوة الأوروبية تصرفاً غير عادل وموجهاً سياسياً. هذه الصورة يمكن أن تؤثر سلباً على علاقات أوروبا الدبلوماسية مع دول الجنوب العالمي.
في المجمل، فإن معارضة الصين وروسيا لا تمنح إيران فقط هامشاً اقتصادياً وأمنياً، بل تضعف أيضاً شرعية الخطوة الأوروبية وتمنع تشكّل إجماع دولي ضد إيران. وهذا العنصر يُعد من ركائز فرضية الدراسة التي تؤكد محدودية الآثار المدمرة لتفعيل آلية العودة التلقائية.
3.4 التداعيات الاعتبارية على أوروبا
رغم أن تفعيل آلية العودة التلقائية من قبل أوروبا قد يكون مبرراً قانونياً ضمن القرار 2231، إلا أنه يواجه تحديات سياسية وأخلاقية كبيرة. خاصة بعد اتفاق القاهرة والتعاون الجزئي لإيران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، يمكن اعتبار هذه الخطوة تصرفاً غير عادل ومنحازاً. وتُدرس هذه التداعيات الاعتبارية على ثلاثة مستويات: الدبلوماسي، الإعلامي، والداخلي.
أولاً – التحليل الدبلوماسي والإعلامي
لطالما سعت دول الاتحاد الأوروبي، خصوصاً أعضاء مجموعة E3 (ألمانيا، فرنسا، بريطانيا)، إلى تقديم نفسها كوسطاء مستقلين ومتوازنين في النزاع النووي الإيراني. وقد تعززت هذه الصورة بعد الاتفاق النووي، من خلال جهود الحفاظ عليه ومعارضة سياسة “الضغط الأقصى” الأمريكية.
لكن تفعيل آلية العودة التلقائية في ظل استئناف إيران لتعاونها المشروط مع الوكالة، يُضعف هذه الصورة.
في وسائل الإعلام الدولية، خاصة في الدول غير الغربية، قد يُنظر إلى هذه الخطوة على أنها انصياع غير مشروط لسياسات إسرائيل والولايات المتحدة. خصوصاً أن مسؤولاً ألمانياً صرّح علناً بأن الهدف من وقف برنامج إيران الصاروخي هو ضمان أمن إسرائيل.
هذا الموقف يثير جدلاً ليس فقط دبلوماسياً، بل أخلاقياً أيضاً، لأنه يُظهر أن أوروبا تضع أولويات سياسية خاصة فوق مبادئ القانون الدولي في تقييم التهديدات الإقليمية.
ثانياً – التأثير على دور أوروبا كوسيط
من أهم الأصول الدبلوماسية لأوروبا في الملف النووي الإيراني كان دورها كوسيط. وقد مكّنها هذا الدور، خاصة بعد انسحاب الولايات المتحدة، من تسهيل المفاوضات ومنع انهيار الاتفاق.
لكن تفعيل آلية العودة التلقائية، دون إجماع دولي، وفي ظل تعاون جزئي من إيران، يُضعف هذا الدور.
قد ترى إيران، ومعها العديد من المحللين الدوليين، أن هذه الخطوة تمثل نهاية حيادية أوروبا. وفي هذه الحالة، تفقد إيران ثقتها بأوروبا كوسيط، وتتحول المسارات الدبلوماسية إلى مواجهات سياسية.
كما أن دولاً غير غربية مثل الصين، روسيا، والهند قد تتجاهل دور أوروبا في المفاوضات المقبلة، وتفضل تصميم مسارات متعددة الأطراف جديدة.
ثالثاً – الانعكاسات الداخلية في دول الترويكا الأوروبية
داخل الدول الأوروبية، خصوصاً ألمانيا، فرنسا، وبريطانيا، قد يواجه تفعيل آلية العودة التلقائية ردود فعل سياسية واجتماعية.
الأحزاب اليسارية، الحركات المناهضة للحرب، ووسائل الإعلام المنتقدة لسياسات إسرائيل، قد تعتبر هذه الخطوة انحيازاً غير مشروط لتل أبيب.
في ألمانيا، حيث تلعب ذاكرة الحرب والهولوكوست دوراً حساساً في السياسة الخارجية، فإن دعم إسرائيل يُعامل بحذر. لكن استخدام هذه الحساسية لتبرير عقوبات واسعة ضد إيران قد يواجه مقاومة شعبية.
وفي فرنسا وبريطانيا، فإن الإرث الاستعماري والدور التاريخي في الشرق الأوسط يجعلان الرأي العام أكثر تحفظاً تجاه التدخلات الخارجية.
ورغم أن هذه الانعكاسات الداخلية قد لا تؤثر فوراً على السياسة الخارجية، إلا أنها على المدى الطويل قد تُضعف الشرعية الأخلاقية والسياسية لأوروبا على الساحة الدولية.
في المجمل، فإن التداعيات الاعتبارية لتفعيل آلية العودة التلقائية من قبل أوروبا تظهر ليس فقط في العلاقات الخارجية، بل أيضاً في الداخل الأوروبي والإعلام.
وتُعد هذه التداعيات عنصراً أساسياً في فرضية الدراسة، التي تشير إلى أن أوروبا، في سعيها لممارسة الضغط على إيران، قد تواجه تكاليف سياسية وأخلاقية كبيرة—تكاليف تُحوّل العقوبات من أداة أحادية إلى علاقة متبادلة.
4. الانتقادات الداخلية للفرضية وحدود التحليل
تفترض هذه الدراسة أن تفعيل آلية العودة التلقائية، رغم تهديداته الرمزية والسياسية، لا يؤدي بالضرورة إلى آثار مدمرة. وقد بُني هذا الافتراض على أربعة مؤشرات رئيسية تم تحليلها في الفصل الثالث.
ومع ذلك، تظهر خلال مسار التحليل ثلاث انتقادات جوهرية لهذا الإطار—انتقادات لا تأتي من الخارج، بل تنبع من التجربة المعيشة، المنطق القانوني، والرؤية الجيوسياسية.
هذا الفصل يُعد بمثابة مراجعة نقدية لأسس الفرضية، ويعالج هذه الانتقادات الثلاثة بالتفصيل.
4.1 تجاهل التجربة المعيشة للعقوبات: التضخم، البطالة، التآكل الاجتماعي
قد تُحلل العقوبات على المستوى الرسمي كأدوات ضغط سياسي أو اقتصادي، لكنها على المستوى المجتمعي تُعاش كواقع يومي مرهق، وأحياناً مهين.
في التحليل السابق، ركزنا على المرونة المؤسسية—أي قدرة المؤسسات الرسمية الإيرانية على الحفاظ على أدائها تحت الضغط الخارجي.
لكن هذه المرونة، عملياً، جاءت على حساب أثمان بشرية، اجتماعية، ونفسية ثقيلة، لم تنعكس بشكل كافٍ في التحليل.
منذ عام 2018، واجه المجتمع الإيراني تضخماً مزمناً ومتعدد الطبقات.
أسعار السلع الأساسية، من الخبز واللحم إلى الدواء وإيجار السكن، تتغير يومياً، وأصبح “رقص الدولار” رمزاً لانعدام الاستقرار الاقتصادي.
هذه التقلبات لم تُضعف القدرة الشرائية فحسب، بل زعزعت أيضاً الأمن النفسي للمجتمع.
الأسر، خصوصاً من الطبقات الوسطى والدنيا، تواجه غياب الأفق الاقتصادي—فهي لا تعرف ماذا ستشتري غداً، ماذا ستبيع، أو حتى إن كانت ستتمكن من الاستمرار في الحياة.
في هذا السياق، تراجعت الحيوية الاقتصادية داخل المجتمع الإيراني بشكل حاد.
العديد من القطاعات المهنية، من الصناعة إلى التعليم، دخلت في حالة ركود أو توقفت تماماً.
البطالة، خصوصاً بين الشباب المتعلم، بلغت مستويات تهدد ليس فقط سبل العيش، بل الكرامة الإنسانية.
هجرة الكفاءات، توسع الاقتصاد غير الرسمي، وزيادة الاعتماد على الدعم العائلي، هي بعض من نتائج هذا الوضع.
من منظور علم النفس الاجتماعي، أدى هذا الوضع إلى إحباط جماعي، تآكل الثقة، وتنامي شعور بالعجز.
فقد الناس ثقتهم ليس فقط بالمؤسسات الداخلية، بل أيضاً بالمؤسسات الدولية.
العقوبات، بهذا المعنى، ليست مجرد أدوات ضغط، بل أدوات لتدمير الأمل.
لذلك، فإن الفرضية، رغم وجاهتها على المستوى المؤسسي، تحتاج إلى استكمال ومراجعة على المستوى الإنساني والاجتماعي.
4.2 الآثار المدمرة لآلية العودة التلقائية: إضفاء الشرعية على السلوك غير المشروع، العودة إلى الفصل السابع، وانهيار مكاسب الاتفاق النووي
آلية العودة التلقائية هي آلية استثنائية في القرار 2231، تتيح إعادة فرض العقوبات تلقائياً دون تصويت.
ورغم إدراجها في نص الاتفاق، فقد كانت موضع جدل منذ البداية.
تفعيلها، خصوصاً من قبل أوروبا، في ظل تعاون جزئي من إيران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، قد يُعتبر بمثابة إضفاء شرعية على السلوك غير المشروع للغرب تجاه الاتفاق النووي.
من منظور القانون الدولي، يُعد هذا الإجراء نوعاً من إساءة استخدام الآلية القانونية.
فأوروبا، دون أن تتحمل مسؤولية خرق التزاماتها، تُحمّل إيران وحدها مسؤولية الانتهاك وتعيد فرض العقوبات.
هذا الوضع لا يزيد فقط من فقدان إيران للثقة بأوروبا، بل يُضعف أيضاً مصداقية المؤسسات الدولية.
سياسياً، يعني تفعيل آلية العودة التلقائية عودة إيران رسمياً إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة—أي اعتبارها تهديداً للسلم والأمن الدوليين.
وهذا الوضع يُفقد إيران جميع مكاسب الاتفاق النووي:
- رفع الحظر على الأسلحة
- إمكانية بيع النفط
- الوصول إلى النظام المالي العالمي
- والشرعية الدبلوماسية على الساحة الدولية
4.3 الانسداد الكامل لمسارات الانفراج: تصاعد التوتر، واستيقاظ شبح الحرب
لا يقتصر تفعيل آلية العودة التلقائية على إعادة العقوبات، بل يؤدي أيضاً إلى إغلاق كامل للمسارات الدبلوماسية بين إيران والغرب.
وفي سياق ما بعد الحرب في يونيو 2025، حيث بلغت التوترات بين إيران وإسرائيل ذروتها، قد يُنظر إلى هذه الخطوة على أنها نهاية لأي فرصة للتفاوض، التفاعل، أو الانفراج.
دبلوماسياً، تعني الآلية قطع قنوات الحوار.
فأوروبا، التي كانت تلعب دور الوسيط، تظهر الآن كطرف ضاغط.
وقد ترد إيران بوقف التعاون مع الوكالة، رفع مستوى التخصيب، والخروج من الالتزامات المتبقية.
وهذا لا يُخفف التوتر، بل يُفاقمه سياسياً وأمنياً.
من منظور الأمن الإقليمي، قد يؤدي هذا التصعيد إلى استيقاظ شبح الحرب من جديد.
التهديدات العسكرية، الهجمات السيبرانية، والصراعات بالوكالة، كلها سيناريوهات محتملة.
وقد تبرر إسرائيل، بدعم ضمني من أوروبا والولايات المتحدة، شن ضربات استباقية.
وفي المقابل، قد تعزز إيران محور المقاومة، توسع نفوذها الإقليمي، وترفع جاهزيتها العسكرية.
في مثل هذا السياق، تصبح آلية العودة التلقائية ليس فقط أداة للعقوبات، بل محفزاً لأزمة أمنية.
وقد تدخل منطقة الشرق الأوسط، التي كانت تعاني من حروب بالوكالة، في مرحلة من المواجهات المباشرة—مرحلة لا تشمل إيران وحدها، بل تُهدد أمن المنطقة بأكملها.
لذلك، يجب أن تعترف فرضية الدراسة بأن آلية العودة التلقائية، إلى جانب آثارها الاقتصادية، تحمل أيضاً تداعيات أمنية وجيوسياسية خطيرة.
5. التداعيات المحتملة لتفعيل آلية العودة التلقائية
رغم أن تفعيل آلية العودة التلقائية يبدو في ظاهره إجراءً قانونياً ضمن إطار القرار 2231، إلا أنه عملياً قد يؤدي إلى سلسلة من التداعيات المتعددة المستويات—من توسيع نطاق العقوبات إلى تقويض شرعية أوروبا وتصاعد التوترات الإقليمية.
يُعد هذا الفصل بمثابة تحليل للتداعيات التي تتجاوز نطاق الفرضية، ويستعرض ثلاثة مسارات محتملة يمكن أن تعيد تشكيل بنية العلاقات الدولية تجاه إيران.
5.1 توسيع نطاق العقوبات وانضمام الدول المحايدة
قد يؤدي تفعيل آلية العودة التلقائية بشكل غير مباشر إلى دفع الدول التي كانت سابقاً محايدة أو مترددة تجاه إيران نحو الاصطفاف مع العقوبات.
ورغم أن هذه الدول ليست أعضاء في مجلس الأمن أو أطرافاً رسمية في الاتفاق النووي، إلا أنها قد تتأثر بالإجماع السياسي والضغط الاقتصادي الغربي، مما يدفعها تدريجياً إلى تقليص تعاونها مع إيران.
ومع ذلك، يجب التنبه إلى أن الخوف من العقوبات الثانوية هو ظاهرة مزمنة ومستقرة.
فمنذ سنوات، امتنعت العديد من الدول—مثل تركيا، كوريا الجنوبية، الهند، وحتى بعض الدول العربية—عن التعاون المباشر مع إيران رغم الحاجة الاقتصادية لذلك.
ومثال ذلك تركيا، التي رغم علاقاتها التجارية الواسعة، ابتكرت صيغاً قانونية للتعامل مع إيران، لكنها لم تسمح للإيرانيين بفتح حسابات مصرفية حقيقية.
لذا، فإن تفعيل آلية العودة التلقائية قد يُفاقم هذا الاتجاه، لكنه لا يُعد بداية موجة جديدة.
بل إنه يرسّخ ويعمّق سلوكيات الحذر لدى الدول، خاصة في القطاعات المصرفية، التأمينية، والتكنولوجية.
وهذا يزيد الضغط الاقتصادي على إيران، لكنه في الوقت نفسه يكشف عن محدودية العقوبات في خلق إجماع عالمي فعلي.
5.2 تقويض شرعية أوروبا في الجنوب العالمي
من أبرز تداعيات تفعيل آلية العودة التلقائية، تراجع الشرعية السياسية والأخلاقية لأوروبا في نظر دول الجنوب العالمي.
فالاتحاد الأوروبي، وخاصة دول مجموعة E3، لطالما سعت إلى تقديم نفسها كوسطاء مستقلين في النزاع النووي الإيراني.
لكن اللجوء إلى هذه الآلية، خصوصاً بعد اتفاق القاهرة والتعاون الجزئي لإيران مع الوكالة، قد يُلحق ضرراً بالغاً بهذه الصورة.
في العديد من الدول غير الغربية، قد يُنظر إلى هذا الإجراء على أنه انصياع غير مشروط لمصالح إسرائيل والمحافل الصهيونية-الماسونية، وليس تطبيقاً محايداً لآلية قانونية.
وهذه الصورة، خاصة في العالم الإسلامي، أفريقيا، وأمريكا اللاتينية، قد تؤدي إلى فقدان أوروبا لمكانتها الأخلاقية على الساحة الدولية.
دبلوماسياً، قد يؤدي هذا الوضع إلى تراجع نفوذ أوروبا في المؤسسات متعددة الأطراف، التحالفات الإقليمية، والمفاوضات الدولية.
وقد تتجه الدول التي كانت ترى في أوروبا وسيطاً موثوقاً نحو الصين، روسيا، أو مؤسسات غير غربية.
وهذا التحول لا يُعد خسارة لإيران، بل قد يُسهم في إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية على المستوى العالمي.
5.3 تصاعد التوترات الإقليمية وخطر النزاعات بالوكالة
في سياق ما بعد الحرب في يونيو 2025، قد يؤدي تفعيل آلية العودة التلقائية إلى تصاعد التوترات الإقليمية واستيقاظ شبح الحرب من جديد.
فهذا الإجراء لا يُغلق فقط المسارات الدبلوماسية، بل يُرسل أيضاً إشارات سياسية لتكثيف الضغط، التهديدات العسكرية، والنزاعات بالوكالة.
في مثل هذا السياق، قد تُوقف إيران تعاونها مع الوكالة، ترفع مستوى التخصيب، وتنسحب من الالتزامات المتبقية.
وفي المقابل، قد تُبرر إسرائيل وحلفاؤها الغربيون شن ضربات استباقية، خاصة بالاستناد إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
وقد يؤدي ذلك إلى اندلاع مواجهات مباشرة أو بالوكالة في الخليج الفارسي، سوريا، لبنان، واليمن.
من منظور الأمن الإقليمي، فإن آلية العودة التلقائية، رغم كونها آلية قانونية في الظاهر، قد تتحول عملياً إلى محفز لأزمات أمنية وعسكرية.
وقد تدخل منطقة الشرق الأوسط، التي كانت تعاني من حروب متفرقة، في مرحلة من النزاعات الواسعة النطاق—مرحلة لا تشمل إيران وحدها، بل تُهدد أمن المنطقة بأكملها.
5.4 تعزيز المسارات الموازية: إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية والخروج من المدار الغربي
رغم أن تفعيل آلية العودة التلقائية يبدو إجراءً قانونياً، إلا أنه عملياً قد يُسرّع خروج إيران من المدار الغربي ويُعزز المسارات الموازية إقليمياً وعالمياً.
وهذا التحول لا يُعد مجرد رد فعل على العقوبات، بل يُمثل إعادة تعريف لموقع إيران الجيوسياسي في النظام الدولي.
في السنوات الأخيرة، سعت إيران إلى الانضمام إلى مؤسسات مثل منظمة شنغهاي للتعاون، الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، واتفاقيات ثنائية مع الصين، روسيا، الهند، ودول آسيا الوسطى، بهدف خلق بدائل للتفاعل الاقتصادي، الأمني، والدبلوماسي.
وقد يُسرّع تفعيل آلية العودة التلقائية هذه الجهود، وينقلها من وتيرة تدريجية إلى مسار متسارع.
اقتصادياً، توفر هذه المؤسسات إمكانية استخدام عملات غير دولارية، المقايضة التجارية، الاستثمارات المشتركة، وتبادل التكنولوجيا.
أمنياً، يمكن أن تُسهم التعاونات العسكرية والاستخباراتية مع دول شنغهاي في تعزيز الردع الإقليمي.
ودبلوماسياً، تتيح هذه المنصات لإيران عرض روايتها بشأن العقوبات في المحافل غير الغربية، والحفاظ على شرعيتها الدولية.
لذا، فإن تفعيل آلية العودة التلقائية، رغم أنه يزيد الضغط الغربي، إلا أنه يُعد أيضاً محفزاً لتعزيز المسارات الموازية وإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية.
وقد تتجه إيران، بدلاً من الانكفاء، نحو تعميق علاقاتها مع الشرق، الجنوب العالمي، والمؤسسات متعددة الأطراف غير الغربية—وهو مسار لا يُعد مجرد رد فعل، بل يُمثل إعادة تعريف استراتيجية.
6- التقييم النهائي والإجابة على سؤال البحث
كان السؤال الرئيسي لهذه الدراسة: هل يؤدي تفعيل آلية العودة التلقائية، رغم تهديداتها الرمزية والقانونية، بالضرورة إلى آثار مدمرة على إيران؟
وللإجابة عليه، تم تحليل أربعة عناصر من الفرضية (الفصل الثالث)، ثم تناولت الدراسة الانتقادات الداخلية لمنطق الفرضية (الفصل الرابع)، وأخيراً تم استعراض التداعيات العملية والجيوسياسية لهذا الإجراء (الفصل الخامس).
في هذا الفصل، نُجري تقييماً نهائياً ونقدم إجابة تحليلية شاملة على سؤال البحث.
6.1 ملخص الآثار الاقتصادية والسياسية
اقتصادياً، واجهت إيران منذ عام 2018 عقوبات كانت من حيث الشدة والنطاق والتأثير، مماثلة أو حتى أشد مما قد تسببه آلية العودة التلقائية.
وقد أظهرت تجربة العقوبات غير المباشرة، والإصلاحات الهيكلية بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وتصميم آليات اقتصادية بديلة، أن إيران استطاعت الحفاظ على جزء من أدائها الاقتصادي، رغم التكاليف الباهظة.
سياسياً، قد يؤدي تفعيل الآلية إلى إعادة إيران رسمياً إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، مما يضعف مكانتها الدولية رمزياً وقانونياً.
ومع ذلك، فإن معارضة الصين وروسيا، والتداعيات الاعتبارية على أوروبا، تمنع تشكّل إجماع عالمي ضد إيران، وتُبقي على هامش المناورة الدبلوماسية.
بالمجمل، فإن الآثار الاقتصادية والسياسية لآلية العودة التلقائية، رغم أهميتها، لا تُعد مدمرة بالضرورة ضمن سياق التجربة الإيرانية السابقة، بل تُصنّف ضمن الضغط المزمن القابل للإدارة.
6.2 تقييم درجة “الدمار” الناتج عن العقوبات
يمكن للعقوبات، خاصة في إطار آلية العودة التلقائية، أن تُحدث اضطراباً في التجارة والاستثمار والتعاملات المالية.
لكن درجة “الدمار” تعتمد على تعريفنا للانهيار.
إذا اعتبرنا الانهيار هو العجز الكامل للمؤسسات الاقتصادية والإدارية عن العمل، فإن الأدلة تشير إلى أن إيران لم تصل إلى هذه المرحلة.
ومع ذلك، أشار الفصل الرابع بحق إلى أن التجربة المعيشة للعقوبات كانت مرهقة اجتماعياً وإنسانياً.
التضخم، البطالة، هجرة الكفاءات، والإحباط العام، هي من الآثار الملموسة التي يعيشها المجتمع.
لذا، رغم صمود البنية الرسمية، فإن جودة الحياة الاجتماعية قد تآكلت.
وبالتالي، فإن العقوبات ليست مدمرة بالضرورة، لكنها قد تؤدي إلى دمار تدريجي على المستوى الاجتماعي والنفسي—دمار لا يظهر في الإحصاءات الرسمية، لكنه يبقى في الذاكرة الجماعية.
6.3 تحليل تكاليف المواجهة بين إيران وأوروبا
تفعيل آلية العودة التلقائية لا يُحمّل إيران وحدها التكاليف، بل يشمل أوروبا أيضاً.
فإيران تواجه قيوداً جديدة مع عودة العقوبات الأممية، بينما تواجه أوروبا تداعيات اعتبارية، تراجع دورها الوسيط، وانخفاض شرعيتها في الجنوب العالمي.
من جهة أخرى، قد تتجه إيران نحو تعزيز المسارات الموازية—من منظمة شنغهاي إلى الاتفاقيات غير الدولارية.
وهذا التحول لا يُعد انفعالاً، بل إعادة تشكيل جيوسياسية قد تُرسّخ موقع إيران خارج المدار الغربي.
بالمحصلة، فإن تكاليف هذا الصراع متبادلة.
تتحمل إيران الضغط الاقتصادي، بينما تفقد أوروبا رصيدها السياسي والأخلاقي.
وهذا الصراع لا يُضر بإيران فقط، بل يُضعف النظام الدولي القائم على الثقة والتوازن والحوار.
6.4 الاستنتاج التحليلي حول الفرضية
استناداً إلى التحليلات المقدمة، يمكن القول إن الفرضية الأساسية للدراسة صحيحة على المستوى الهيكلي:
“تفعيل آلية العودة التلقائية، رغم تهديداته الرمزية والسياسية، لا يؤدي بالضرورة إلى آثار مدمرة على إيران.”
لكن هذا الاستنتاج يجب أن يُرفق بتحفظين:
- على المستوى الاجتماعي والإنساني، فإن آثار العقوبات مرهقة ومدمرة، حتى لو صمدت البنية الرسمية.
- على المستوى الجيوسياسي، قد يؤدي هذا الإجراء إلى إعادة تشكيل استراتيجية لا تمس إيران وحدها، بل تُغيّر موقع أوروبا أيضاً.
لذلك، فإن الإجابة النهائية على سؤال البحث هي مزيج من تأييد مشروط ودعوة إلى مراجعة متعددة الأبعاد.
فالعقوبات، رغم إمكانية تحملها، لا يجب تحليلها ببرود.
فهي تختبر البنية، تُرهق المجتمع، وتُهدد النظام العالمي.
7- نظرة إلى المستقبل
رغم أن تفعيل آلية العودة التلقائية يبدو نهاية لاتفاق، إلا أنه عملياً قد يُشكّل بداية لإعادة تعريف موقع إيران في النظام العالمي.
وهذا التعريف الجديد لا يقتصر على الدبلوماسية، بل يشمل البنية الاقتصادية، الإقليمية، والسردية الدولية.
في هذا الفصل، نناقش ثلاث رؤى رئيسية لمستقبل إيران في مواجهة العقوبات والنظام ما بعد الاتفاق النووي.
7.1 إعادة تعريف دبلوماسية إيران في عالم متعدد الأقطاب
في سياق ما بعد الحرب وما بعد الاتفاق النووي، يجب على إيران أن تُحوّل دبلوماسيتها من محور غربي إلى محور متعدد الأقطاب.
وهذا التحول ليس جغرافياً فقط، بل مفهومي:
- من الحوار مع القوى الغربية (أوروبا والولايات المتحدة) القائم على الضغط والعقوبات والاشتراطات،
- إلى الحوار مع القوى الشرقية (الصين وروسيا) والتكتلات الإقليمية المبني على المصالح المتبادلة، التعاون الاستراتيجي، والاتفاقيات البديلة.
يمكن لمنظمة شنغهاي، مجموعة بريكس، الاتحاد الأوراسي، والاتفاقيات غير الدولارية أن تُشكّل أرضية لهذا التحول.
وبدلاً من السعي للعودة إلى اتفاق فقدت الثقة فيه، يمكن لإيران أن تُصمم نظاماً بديلاً قائماً على الاستقلال المالي، الاحترام المتبادل، والتعددية الحقيقية.
وبعبارة أوضح، يجب على إيران أن تُقصي الغرب من منظومتها الخارجية، لأنه—على الأقل في الظروف الحالية—لا يجلب سوى التكاليف السياسية، الاعتبارية، والاقتصادية.
7.2 إعادة بناء الاقتصاد الداخلي على أساس المرونة الاجتماعية ومكافحة الفساد بلا مجاملة
حتى لو لم تُسقط العقوبات البنية الرسمية، فإنها تُرهق المجتمع.
لذا، يجب أن يقوم مستقبل الاقتصاد الإيراني ليس فقط على الصمود المؤسسي، بل على المرونة الاجتماعية، الثقة العامة، والديناميكية الذاتية.
تتطلب هذه إعادة البناء عدة تحولات جوهرية:
- إصلاح النظام الضريبي والميزانية بمنهجية عادلة، مع الاعتماد على أنظمة رقمية منيعة ضد التدخلات الخفية
- تمهيد الطريق لتوسيع الإنتاج المحلي، مع التركيز على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة
- تقليل الاعتماد على العملات الأجنبية وتعزيز الاتفاقيات التبادلية
- إعادة بناء الثقة العامة من خلال مسؤولية المسؤولين، الشفافية، المشاركة، والمساءلة
- والأهم من ذلك، شن حرب جادة وغير مجاملة ضد الفساد الاقتصادي والإداري، الذي لا يُهدر الموارد فقط، بل يُدمّر رأس المال الاجتماعي أيضاً
في هذا النموذج، لا يُعد الاقتصاد المقاوم مجرد أداة للبقاء، بل أرضية لإعادة البناء الاجتماعي والسياسي.
7.3 إعادة بناء سردية وسلوك إيران في الساحة الدولية
لا تُسبب العقوبات ضغطاً اقتصادياً فقط، بل تُشعل أيضاً حرباً سردية.
وعلى إيران، في مواجهة آلية العودة التلقائية، أن تُعيد بناء سرديتها—ليس للدفاع فقط، بل لإنتاج معنى في النظام العالمي.
لكن هذه العملية يجب أن تترافق مع تغيير في السلوك وتجنب خلق تكاليف خارجية.
تشمل محاور هذه العملية:
- السعي لاسترداد الحقوق المنتهكة في المحافل الدولية، واستغلال العلاقات الدولية والمؤسساتية لدفع هذا المسار
- تسليط الضوء على الآثار الإنسانية للعقوبات في المؤسسات متعددة الأطراف
- استخدام الإعلام غير الغربي لنقل سردية إيران
- ربط مقاومة إيران بالحركات المناهضة للعقوبات والهيمنة في الجنوب العالمي
- مراجعة السياسات التصادمية، بما فيها دعم الجماعات “الوكيلة”، التي قد تُضعف شرعية إيران الدولية في مرحلة ما بعد الحرب
- تجنب خلق تكاليف خارجية، والامتناع عن استخدام الموارد الاقتصادية الداخلية في خدمة شعارات أيديولوجية، لأنها لا تُضعف الكفاءة الاقتصادية فقط، بل تُآكل الثقة العامة أيضاً
في هذا السياق، لا تكون إيران مجرد لاعب إقليمي، بل فاعلاً عالمياً يسعى لتحدي نظام العقوبات—ليس بالشعارات، بل بالدبلوماسية متعددة الطبقات والسلوك المسؤول.
