تحليل سياسي حول مستقبل الحرب الأوكرانية و مواقف روسیه و الولایات المتحدة من الأزمة
بقلم: حيدر سهیلي الأصفهاني – كاتب ومحلل سياسي
في ظل تعقيدات الحرب الأوكرانية وتداخل المصالح الدولية، جاء لقاء الرئيسين ترامب وبوتين في ألاسكا ليضيف مشهداً جديداً إلى المشهد الجيوسياسي العالمي. هذا المقال لا يسعى إلى التهويل أو التبسيط، بل إلى تقديم قراءة واقعية وموضوعية لما وراء هذا اللقاء، بعيدًا عن التصريحات الرسمية أو التغطيات الإعلامية السطحية.
لا ينبغي لأي تحليل أو حتى تصور حول ترامب وبرامجه وتحركاته أن يغفل عن حقيقة أساسية: دونالد ترامب، في المحصلة النهائية، مجرد “رجل عروض”.
وهذه الحقيقة يمكن رؤيتها بوضوح لدى اثنين آخرين من المرتبطين باللوبي الصهيوني الأمريكي: بنيامين نتنياهو وفلوديمير زيلينسكي.
إذا أردنا تقييم لقاء رئيسي روسيا وأمريكا في ألاسكا من حيث المكاسب السياسية، فكلما أطلنا الكتابة حوله، ابتعدنا أكثر عن الحقيقة.
كثيرون يحبون أن يضعوا هذا اللقاء في إطار ملف أوكرانيا، لكنني أعتقد أن من يتصورون أن هذا الاجتماع سيُنتج جدولاً زمنياً لإنهاء الحرب الأوكرانية، هم الأكثر ابتعاداً عن الواقع.
لقاء ألاسكا: خارج إطار ملف أوكرانيا
هذا الملف يُشكّل الجزء الرئيسي من “مسرحية” اللقاء بين الزعيمين، لا الاتفاقات المحتملة.
لماذا؟ لأن التبادل بين روسيا وأوكرانيا قائم على منطق “صفر المكاسب”.
أي أن الروس لا يمكنهم التنازل عمّا حصلوا عليه، والأوكرانيون لا يمكنهم التغاضي عمّا فقدوه.
الروس، في التقييم النهائي، وبدعوة من سكان المناطق المحتلة، ضمّوا جمهوريات دونباس وشبه جزيرة القرم.
سكان هذه المناطق في الغالب من الروس، وفي خضم الحرب الأهلية بينهم وبين حكومة كييف، تدخل الجيش الروسي.
أما القرم، فقصتها أكثر تعقيداً.
القرم: کربلاء الروس
في حرب القرم عام 1853، وصلت الجيوش المتقاتلة إلى طريق مسدود، حتى أن هذه الحرب تُعد من الحروب الكبرى في التاريخ، إلى جانب حرب كركميش عام 605 قبل الميلاد، وحرب الثلاثين عاماً في وستفاليا (1618–1648).
في تلك الحرب شبه العالمية التي دارت في شبه جزيرة القرم، تجاوز عدد الضحايا 650 ألفاً.
كانت القرم جزءاً من روسيا القيصرية والاتحاد السوفيتي، ثم نُقلت إلى أوكرانيا في عهد خروتشوف ضمن تقسيم إداري، وهو ما دفع البرلمان الروسي عام 1992 إلى اتهام خروتشوف بالخيانة.
بعد التطهير العرقي في القرم في أواخر القرن الثامن عشر، استوطنها الروس المهاجرون و بعد حدوث حرب القرم العالمیة إنتهت في سنة 1853، أصبحت المنطقة التي شهدت خسائر بشرية فادحة، بمثابة “كربلاء للروس”.
استعادة القرم من أوكرانيا كانت بمثابة استعادة جزء من التاريخ الروسي، ما جعل المؤرخين الروس يتنفسون الصعداء.
لذلك، وبغض النظر عن موقعها الاستراتيجي شمال البحر الأسود، لا يمكن إدراج القرم في أي اتفاق سلام مستقبلي، خاصة في حین باتت حكومة كييف راكعة أمام الناتو، على أمل أن يقبل بها کعضو رسمي. حتی ولو نفترض بأن روسيا أمام حصولها علی إمتیازات هائلة ترجح الصمت و تقلیل من حساسیتها، يبقى إحتمال درج شبه جزیرة القرم ضمن قائمة أي مفاوضات مستقبلیة موضع شك قوي.
جمهوريات دونباس: “العودة إلى الوطن الأم”
جمهوريتا دونيتسك ولوهانسك، اللتان أعلنتا استقلالهما بالتزامن مع ضم القرم، تُعرفان بجمهوريات دونباس.
كانت جزءاً من أوكرانيا، ضمن سياسة روسية معتادة بإنشاء مناطق روسية في الجمهوريات التابعة، تُشكل “عظمة في الحلق”.
أو لنقل بشكل أكثر حيادية: أقلية روسية تمنع تشكّل هوية محلية مستقلة بالكامل — جيش مقيم نوعا ما.
ومع صعود القوميين الأوكرانيين وظهور نزعة قومية احتكارية في كييف، ضاق الخناق على الروس المقيمين، فاختاروا العودة إلى “الوطن الأم”.
طبعاً، استخدام هذا الخطاب “الأبيض والأسود” هو فقط لتبسيط الفكرة، وإلا فإن الواقع أكثر تعقيداً، بفعل التداخلات العرقية واللغوية والسياسات السوفيتية السابقة.
على أي حال، ملف جمهوريات دونباس لم يعد بيد بوتين كي يمنح أو يتنازل.
هذه الجمهوريات انفصلت رسمياً، وأصبحت ضمن الاتحاد الروسي، بحكم ذاتي نسبي، وخارج نطاق سلطة الرئيس الروسي.
هناك مناطق أخرى تتوسع يوماً بعد يوم، مثل خرسون وزابوريجيا، التي يُقال إن أغلب سكانها أوكرانيون.
لكن روسيا، في 29 سبتمبر 2022، أعلنت استقلالها ثم ضمّها رسمياً إلى أراضيها، على مرحلتين: إعلان الانفصال، ثم إعلان الانضمام.
هل تنسحب روسيا من هذه المناطق؟
هذا غير ممكن عملياً، ولا يبدو أن بوتين ذهب إلى ألاسكا لحل أزمة أوكرانيا.
وبالتأكيد، كييف لا يمكنها أن تقول:
“من أجل السلام، أتنازل عن كل هذه المناطق، فقط أعيدوا لي المناطق ذات الأغلبية الأوكرانية، أو دعونا نجري استفتاءً شعبياً.”
الخيار الثاني، أي الاستفتاء، يعني خسارة القرم ودونباس.
وباستعادة خرسون وبعض المناطق، لن يُستقبل زيلينسكي في كييف كأبطال روما. حتى الأوروبيين، حين يتحدثون عن الأراضي المحتلة، يركزون فقط على القرم.
الغرب، رغم ادعائه الاهتمام بحقوق الإنسان وحق تقرير المصير، يفكر فقط في معادلاته الاستراتيجية، لا أكثر!
وأحداث غزة أثبتت أن هذه هي نفس أوروبا التي كانت تلتقط صوراً منتصرة بجانب رؤوس الأفارقة المقطوعة في زمن الاستعمار.
ما الذي تريده روسيا؟
تصور الروس عن لقاء ألاسكا لا يختلف كثيراً عن تصور ترامب، لكنهم أكثر جرأة.
بكلمة واحدة، يرون برنامج ترامب مجرد “غمزة كبيرة” بمعنى: “انسَ الأمر!”
بعبارة أبسط، يرون اللقاء كله مجرد “مسرحية كبرى”، يُلقى فيها عظم أمام أوكرانيا، ويُعلن الجميع فرحتهم بانتهاء الحرب، ويحصل ترامب على جائزة نوبل للسلام، لتصبح الجائزة فعلاً بلا قيمة.
وربما تكون جائزة العام القادم من نصيب بنيامين نتنياهو!
هذا “العظم” قد يكون خرسون وزابوريجيا وبعض القرى المحيطة بدونباس، ما يُعد دليلاً على قبول الهزيمة المطلقة.
مسرحية ألاسكا
هدف ترامب ليس إنهاء الحرب الأوكرانية، بل تنظيم “مسرحية” تُخرج ملف أوكرانيا من أجندة السياسة الخارجية الأمريكية.
وكما يحب أن يقول دائماً:
“قدمت لزيلينسكي اتفاقاً رائعاً، لكنه رفض. أليس الاتفاق رائعاً؟ فعلاً رائع. ماذا يمكنني أن أفعل؟ زيلينسكي تصرف بشكل سيء. أليس كذلك؟”
وفي اليوم التالي، تدخل الحرب الأوكرانية مرحلة “الغيبوبة”، حيث يُقال عشرات التصريحات مقابل كل طلقة.
بوتين فهم ذلك، وفي مقابل رقصة الفالس التي يؤديها ترامب، يُقدم رقصته القزاقية.
رقصة ماهرة ومركبة، لمسرحية جميلة، يُفترض أن تُنقذ العلاقات الروسية الأمريكية من هذا الملف “المزعج”.
