قاسم خرّمي
كان ميشيل فوكو يأمل كثيرًا في الثورة الإسلامية في إيران، إذ اعتبرها ظاهرة خارجة عن إطار الحداثة الغربية. لهذا السبب، زار إيران مرتين: الأولى من 16 إلى 24 سبتمبر 1978، والثانية من 9 إلى 15 نوفمبر 1978، حيث التقى في طهران وقم وعبادان بعدد من القادة الدينيين والوطنيين، إضافة إلى مجموعات شاركت في الثورة. وقد نُشرت انطباعاته الإيجابية عن الأحداث الثورية في وسائل الإعلام الغربية، مما ساهم في خلق جو من التفاؤل لدى المثقفين المستقلين في الغرب تجاه الثورة الإيرانية.
ولد ميشيل فوكو في فرنسا، وكان أستاذًا في جامعات أمريكية، ويُعد من أبرز الفلاسفة والمؤرخين المعاصرين، وإن كان يُنظر إليه أحيانًا على أنه “سيئ السمعة”. توفي في 25 يونيو 1984 عن عمر ناهز 57 عامًا بسبب مرض الإيدز.
اشتهر فوكو بميوله الجنسية المثلية، وهو ما دفع البعض إلى وصفه بـ”الفيلسوف الفاسق”، وقد أثّر هذا الوصف على الطريقة التي استُقبلت بها أفكاره، رغم ذكائه وقدرته الفريدة على صياغة نظريات جديدة في العلوم الاجتماعية.
ينتمي فوكو إلى تيار المفكرين المنتقدين للحداثة، حيث مزج بين نظريات فرويد، وأفكار الماركسيين البنيويين مثل ألتوسير، ورؤى نيتشه حول طبيعة السلطة، ليخلق نظرية جديدة لا تشبه أيًا من النظريات السابقة.
يرى فوكو أن النظرية الماركسية التي تعتبر السلطة بيد الدولة، وأن الدولة خاضعة لهيمنة الطبقات العليا، هي نظرية صحيحة لكنها ناقصة وسطحيّة. فأنماط السلطة في العصر الحديث تختلف جذريًا عن أشكال السيطرة القديمة التي كانت تُمارس بشكل مباشر وواضح.
🔍 السلطة في المجتمع الحديث
- السلطة ليست حكرًا على الدولة، بل تمتد إلى كل العلاقات الاجتماعية: بين الأستاذ والطالب، الأب والابن، الرجل والمرأة، وحتى بين السجين والسجّان. فحتى في غياب الدولة، توجد علاقات سلطوية بين الأفراد، ولكل شخص درجة من السلطة، حتى السجين أمام سجّانه.
- السلطة الحديثة لا تُمارس عبر القوة المباشرة كالبوليس والسلاح، بل من خلال المعرفة، وإنتاج الخطابات والنظريات والرؤى التاريخية. وهكذا، ترتبط السلطة بالمعرفة، مما يجعل الأفكار التي تخدم أصحاب السلطة تبدو مقبولة ومعقولة لدى عامة الناس.
سعى فوكو إلى رسم التحولات الإدراكية التي تميز الفكر الحديث عن العصور السابقة. جوهر تفكيره يتمحور حول مفهومي “السلطة” و”التحكم”، حيث يرى أن الخطابات المعاصرة تشكّل مواقف الناس تجاه مفاهيم مثل الجريمة، الجنون، والجنس. فتصوراتنا الحديثة حول السلوك السوي والمنحرف، العقل والجنون، كلها ناتجة عن تداخل السلطة مع الخطاب، وأصبحت جزءًا من بديهياتنا اللاواعية.
في عالم اليوم، تعمل تقنيات المراقبة والانضباط والإكراه على تعزيز هذا الارتباط بين السلطة والخطاب. وغالبًا ما تُواجه الخطابات التخصصية التي يفرضها أصحاب السلطة، فقط من قبل خطابات تخصصية منافسة، مما يجعل المعرفة نفسها أداة للسيطرة وتقييد التفكير والتعبير. ولهذا، يجب التشكيك في النظريات الحداثية حول المجتمع والتنمية الاجتماعية.
📘 كتاب «ولادة السياسة الحيوية»
يتناول كتاب «ولادة السياسة الحيوية: محاضرات كوليج دو فرانس 1978–1979» كيفية سيطرة السلطة على حياة الإنسان، واتجاه الدولة نحو التحكم في الجوانب البيولوجية للوجود البشري. وقد صدر هذا الكتاب بترجمة رضا نجف زاده عن دار نشر “ني”، طهران، عام 2010 (بالفارسیة).
يتطرق الكتاب إلى موضوع الاقتصاد السياسي والسوق الحرة في الأنظمة الليبرالية.
💰 الاقتصاد السياسي و«نظام الحقيقة»
يرى فوكو أن سلطة الدول الحديثة لم تعد مطلقة، بل أصبحت مقيدة بعوامل ومصالح متعددة. فالدول الليبرالية تربط شرعيتها بكفاءتها، وعندما تصبح سلوكيات الدولة أساسًا لشرعيتها، ينشأ ما يسميه فوكو بـ”نظام الحقيقة”. هذا النظام يجعل الدولة تُراجع نفسها باستمرار: هل تحقق أهدافها؟ هل تحكم بشكل فعّال؟ وهكذا، تُقيّد نفسها ذاتيًا (ص 33 من الترجمة الفارسیة ذکرت سالفا).
🛒 السوق وتحول القانون إلى “النظام الحقيقة“
الليبرالية القائمة على اقتصاد السوق تمثل نموذجًا واضحًا للدول التي تعتمد على نظام الحقيقة. ففي العصور الوسطى وحتى القرن السابع عشر، كان السوق مكانًا للعدالة التوزيعية، قائمًا على الثقة بين البائع والمشتري (ص. 51). لكن منذ القرن الثامن عشر، أصبح السوق ذاتي التنظيم، يخضع لقوانين الطبيعة (السعر الطبيعي لا العادل)، ولم تعد القوانين معيارًا للسلوك الاقتصادي.
تحوّل السوق إلى معيار لتقييم الحكومات: فالحكومة الجيدة هي الحكومة الاقتصادية، التي تستند إلى الحقيقة لا إلى القانون. وهكذا، انتقل كل من السوق والدولة من منطق “القانونية” إلى منطق “الحقيقة” (ص 54). فالقضية في الليبرالية المعاصرة ليست الدستور، بل الكفاءة الاقتصادية (ص 49). وهذا التوجه نحو تعميق الممارسات الحكومية أدى إلى احتجاجات وردود فعل في المجتمعات الحديثة.
🏦 مبدأ الربح في الحكومات الحديثة
ترتكز الحكومات الحديثة، إلى جانب السوق، على مبدأ الربحية، طبعا لیس الربح الدولة ککل، كما في الميركانتيلية، بل الربح الفردي والجماعي والاجتماعي. فالدولة اليوم قائمة على “جمهورية الأرباح” (ص 69).
في الماضي، كانت السلطة تُمارس عبر الأفراد والأشياء والأراضي، أما اليوم، فتمارس بشكل غير مباشر عبر القانون والمصلحة، وتتدخل الدولة فقط عندما يكون هناك ربح فردي أو جماعي. حتى العقوبات تغيرت: من التعذيب الجسدي إلى السجن، لأن هذا يُعتقد أنه أكثر فائدة للمجتمع (ص 71).
وهكذا، تقوم الحكومات الحديثة على مبدأ الربحية، مما يطرح سؤالًا مهمًا: إلى أي مدى تواجه الحكومات غير الليبرالية هذه الأسئلة والتحديات؟
🇮🇷 ميشيل فوكو والثورة الإيرانية
كما ذُكر سابقًا، رأى فوكو في الثورة الإسلامية حدثًا خارجًا عن الحداثة، مما جعله يأمل بها كثيرًا. زار إيران مرتين في عام 1978، والتقى بعدد من الشخصيات المؤثرة في الثورة. وكان يرى أن الثورة لا يمكن أن تكون ذات جذور اقتصادية، لأن الاقتصاد وحده لا يستطيع تعبئة هذا العدد الكبير من الناس المستعدين للتضحية.
وقد نُشرت رؤيته الإيجابية في الإعلام الغربي، مما خلق جوًا من التفاؤل بين المثقفين المستقلين. وقد جُمعت مقالاته في كتابين: «ما الذي يحلم به الإيرانيون؟» و«إيران، روح عالم بلا روح». لكن بعض الأحداث المتطرفة، مثل اقتحام السفارة الأمريكية، سرعان ما بددت هذه النظرة الإيجابية، وحوّلتها إلى “رُهاب إيران”.
من أبرز أعمال فوكو الأخرى: نظام الأشياء، نظام الخطاب، أركيولوجيا المعرفة، المراقبة والعقاب، نشأة العيادة، تاريخ الجنون، وتاريخ الجنسانية.
