حیدر سهیلي الإصفهاني
في زمن تتصاعد فيه الخطابات القومية وتُستثمر اللغة كأداة للتمييز والتفوق، تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في المفاهيم السائدة حول “نقاء” اللغة و”ثباتها”. اللغة ليست نصبًا تذكاريًا، بل كائن حيّ يتنفس، يتفاعل، ويخوض صراعاته في قلب الحضارة. هذا المقال يقدّم قراءة نقدية للتصوّر القومي الذي يرى في اللغة العربية كيانًا مغلقًا، ويكشف كيف أن هذا التصوّر لا يمدح العربية، بل يطعن في عظمتها، ويجعل من بحرها المائج بركة راكدة.
لماذا هذا الادّعاء؟
إنه ادّعاء قومي، سواء أكان عربيًا، فارسيًا، تركيًا، أم أمريكيًا. القومي مشغول بالسياسة الجارية، لا يفقه شيئًا من السياسة المنهجية، بل يستثمر في الخطاب الشعبوي البغيض الذي يسعى إلى الاستعلاء على الآخرين بأي ذريعة رخيصة. يُحرّف التاريخ كما يشاء؛ يزيد فيه وينقص منه، وكأنه عاش في كل عصوره. يبحث في النصوص القديمة ليقتنص منها ما يُشبع شهوته في التفوّق على الآخرين.
هل اللغة العربية بركة راكدة؟
اللغة العربية من أجمل لغات العالم، وقد أصبحت لغة عالمية بفضل عملية الأخذ والعطاء المستمرة مع الحضارات الأخرى. لقد استوعبت آلاف الكلمات الأجنبية، كما منحت غيرها الكثير من مفرداتها. ليست بركة راكدة، بل بحرٌ مائج، يسير بقوة وسط الحضارات، يؤثّر فيها ويتأثّر بها. وهذا التفاعل هو ما جعلها لغة غنية، حيّة، وجميلة.
لماذا لا تظهر الكلمات الأجنبية في العربية؟
السبب يعود إلى نظام القواعد في اللغة العربية، وخصوصًا آلية التعريب. هناك معجم ضخم للكلمات الأجنبية في العربية، لكنها تتعرب بسهولة مذهلة. فالفم العربي متعلّم على التعريب تلقائيًا. مثلًا، تدخل كلمة “تلفزيون” إلى العقل العربي، وتخرج من فمه كلمات مثل: “تلفاز”، “متلفز”، “تلفزة”… وكذلك “تليفون” تتحوّل إلى: “متلفن”، “تلفن”، “يتلفن لنا”…
أذكر في زمن الحرب العراقیة- الإیرانیة، سأل مراسلٌ عجوزة عربية تسكن على الحدود، وكانت هاربة من هجوم القوات البعثية: – “لماذا شردتِ من الحدود؟” فأجابت: – “هناك على الحدود… يجانگون!” أي أن كلمة “جنگ” (بالفارسية: حرب) دخلت في القالب العربي، وخرجت بصيغة “يجانگون”، وكأنها فعل عربي صرف.
هذه هي طريقة استيعاب الكلمات في العربية. ربما تُقابل الكلمة الجديدة بالسخرية في البداية، لكنها بعد حين تصبح مألوفة، بل تُعامل كأنها عربية قحطانية!
نظرة على التاريخ:
في كتاب فتوح البلدان للبلاذري، نرى كيف دخلت كلمة “ديوان” الفارسية إلى العربية، ثم خرجت منها كلمات مثل: “تدوين”، “دوّن”، “مدوّن”. لدينا في العربية كلمة “دان” بمعنى “ندّد”، وهي عربية الأصل، بينما “دَوّن” فارسية الأصل، ولا علاقة بين الجذرين.
كذلك كلمة “الهندسة” كانت تُثير الضحك قبل 1400 سنة، لأنها تلفظ خاطئ لكلمة فارسية “هنداچه” أو “اندازه” (بالفارسية الحديثة: اندازه = المقاس). لكن من هذه الكلمة خرجت منظومة كاملة: “الهندسة”، “المهندس”، “هندسنا”، وغيرها.
وهكذا تعاملت العربية مع الحضارات السريانية، المصرية، وغيرها، حتى يومنا هذا.
هل هذا عيب؟
على العكس! العيب الحقيقي هو توقف عملية الأخذ والعطاء في أي لغة؛ حينها تتدهور وتصبح شبه ميتة، حتى تموت في النهاية. إذا رأيتم لغةً ما تأخذ من غيرها وتستثمر في الكلمات الأجنبية، سواء بالترجمة أو التعريب أو التفرّس، فاعلموا أن هذه لغة حيّة، مستمرة، وهائجة.
هناك لغات منسيّة في الغابات أو الصحارى أو الجبال، بقيت على جذورها الأصيلة، دون أدنى تفاعل مع غيرها. وأبناء تلك اللغات قد يفتخرون بـ”أصالتهم” المضحكة، لكنهم في الحقيقة يعيشون في عزلة لغوية قاتلة.
